تعرض دراسة الحالة هذه، جريمة قتل جماعي لـ 6 مدنيين من عائلة واحدة في 7 آذار/ مارس 2025 في مدينة بانياس غربي سوريا خلال عملية عسكرية أعلنتها قوات الحكومة السورية الجديدة ضد جماعات مسلحة تابعة للنظام السابق.
تناقش الدراسة جريمة القتل العمد بحق الضحايا، أحدهم طفلة، وتداعياتها على أسرهم، من المسؤول عن جريمة القتل؟ ما السمات التي تجمع الضحايا؟ وهل من سبل للمساءلة وتحقيق العدالة؟
جريمة القتل المتناولة هي واحدة من جرائم عديدة ارتكبتها قوات مشاركة في عملية أمنية لوزارة الدفاع السورية في مناطق الساحل السوري للرد على هجمات مسلحين موالين للنظام السابق.
وبلغ مجموع الضحايا المدنيين الذين سجلت منظمة إنسايت مقتلهم في الساحل السوري، ما بين 6 آذار و6 نيسان، 886 مدنياً، هم 771 رجل و69 امرأة و46 طفلاً.
نشروا الموت طابقاً تلو الآخر
أطلقت وزارة الدفاع في الحكومة الانتقالية الحملة الأمنية في آذار الماضي لملاحقة مسلحين موالين لنظام بشار الأسد، بعد تعرض قواتها لهجمات وكمائن.
لكن زج كل المجموعات في الحرب لم يكن متناسباً مع ما حدث، كما أن الأسلحة المستخدمة من رصاص وقذائف ومدافع وطائرات مسيّرة وحربية وسعة المناطق المستهدفة لم يكن متناسباً مع ملاحقة مجموعات معينة.
ووصلت أرتال القوات العسكرية إلى بانياس غرب سوريا منتصف يوم الجمعة السابع من آذار وانتشرت في الشوارع الرئيسية في حي القصور في الجهة الشمالية للمدينة، وارتكبت جرائم قتل جماعي للمدنيين وأعمال نهب وإحراق للممتلكات.
وقتل مسلحون من القوات الحكومية والفصائل المرافقة لها ثلاثة أشقاء وامرأتين وطفلة يعيشون في المبنى نفسه بحي القصور.
الأقارب تلقوا اتصالات من الضحايا بعد الظهر أفادت بدخول عناصر القوات على المبنى، ثم تم العثور عليهم مقتولين في منازلهم بعد ساعات من انقطاع الاتصال معهم.
في الطابق الأرضي للمبنى القريب من المشفى الوطني ببانياس، تم العثور على عامر عبود سلامة (39 عاماً) مقتولاً بطلقة في الرأس، وبالقرب منه جثمان زوجته رهام عادل العلي (33 عاماً) والتي كانت قد نزفت كثيراً قبل وفاتها جراء إصابتها بطلقتين في الرقبة والرجل.
الناجي من الأسرة في هذا الطابق كانت رضيعة تبلغ من العمر 7 أشهر، كانت قرب جثماني والديها.
في صالون المنزل في الطابق الثاني، كان أسامة عبود سلامة (47 عاماً) مقتولاً بطلقة في الرأس، إلى جانب جثمان زوجته عفراء علي سليم (40 عاماً) التي بدت عليها إصابات بثلاث طلقات في الرجل والصدر والرأس، إلى جانب طفلتهما نغم البالغة 14 عاماً، والتي تم قتلها بطلقة في الرأس في الغرفة المجاورة.
وفي الطابق الثالث، كان أمجد عبود سلامة (45 عاماً) مقتولاً بطلقة في الرأس كشقيقيه، بينما كانت زوجته، هبة هيثم، ما تزال على قيد الحياة عقب إصابتها بطلقتين، وأطفالها يبكون حولها.
ما الذي يجمع الضحايا؟
يجمع الضحايا المدنيين من آل سلامة والآخرين في الساحل كون غالبيتهم من الطائفة العلوية، بالإضافة لآخرين مسلمين سنة ومسيحيين، وضحايا قوات “الأمن العام” العسكريين.
ولدى مراجعة المهن والوظائف التي شغلها الضحايا في هذه العائلة، يتبين أنهم لم يكونوا مقاتلين لدى أي جهة، بما فيها قوات نظام بشار الأسد سابقاً، لكن الجناة اعتبروهم من “الفلول” المطلوب قتلهم.
أسامة عبود سلامة: موظف في مساحة طرطوس.
أمجد عبود سلامة: موظف في محطة الغاز ببانياس (سادكوب).
عامر عبود سلامة: موظف في مديرية المشتريات بمصفاة بانياس.
رهام عادل العلي: معلمة ومرشدة اجتماعية.
عفراء علي سليم: مهندسة وموظفة في مديرية الدراسات بمصفاة بانياس.
الطفلة نغم أسامة سلامة: طالبة في الصف التاسع.
والضحايا لم يفروا في الساعات والأيام السابقة لأنهم مدنيون وواثقون من براءتهم من أي جريمة ارتكبها النظام السابق، ولثقتهم بدعوات التعايش والسلام التي أطلقتها السلطات الجديدة منذ سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر الماضي.
وتشير الإصابات إلى قتل الرجال بطلقة في الرأس على طريقة الإعدام الميداني، بينما كانت إصابات النساء عديدة وبعضها في الأرجل ما يجعل الاحتمالات مفتوحة حول غرض الجناة من انتزاع اعترافات بالقوة ربما عن الأموال والممتلكات كما أفادت شاهدة، أو أي معلومات أخرى.
عامل للرعاية الصحية قال إن الناجية هبة هيثم علي تم إسعافها للمشفى وهي مصابة بطلقتين واحدة في كف اليد والثانية في الصدر ما تسبب لها بحالة انتان وقيح في الرئة، كما أنها نزفت كثيراً بسبب جرح ناجم عن ضربة على الرأس وكسور وكدمات متفرقة في الجسم.
إن قتل الجناة لطفلة تبلغ 14 عاماً، ونجاة أطفال أصغر سناً في الطوابق الأخرى ربما يشير إلى قواعد أو نهج في قتل من بلغوا سناً معينة من الأطفال.
تم دفن الضحايا تم في مراسم جماعية للضحايا مع عدد قليل من ذوي المتوفين ودون تمكن غالبية أفراد عائلات الضحايا من المشاركة وتحت إشراف مباشر من منظمة الهلال الأحمر العربي السوري المقربة من الحكومة.
يقول مشارك في الدفن الجماعي:
“حين وصلنا إلى المقبرة رأيت آلية (باكير) تحفر خنادق بطول حوالي 50 متراً، اتسع كل منها لحوالي 15 جثة، كانوا يضعون قطعة من بلوك البناء بين كل جثمان والآخر”.
ولم تعلن الجهات الرسمية أو الأهلية، بما فيها لجنة التحقيق المشكّلة، عن أي قائمة رسمية بأسماء وأعداد الضحايا في مدينة بانياس في ذلك اليوم أو الأيام الأخرى، كما امتنع المشفى عن إعطاء وثائق وفاة أو أي أوراق تسهّل نقل الجثامين لدفنها في الأرياف.
ما الذي يجمع الجناة؟
يجمع بين القوات التي ينتمي لها الجناة طابع التشدد الديني والطائفي رغم اختلافها ما بين قوات تابعة مباشرة لوزارة الدفاع وفصائل منضمة حديثاً وجهاديين أجانب وسوريين.
ورغم أن استخدام مصطلح “فلول” للإشارة للمطلوبين كان ينطوي منذ البداية على عدم التمييز بين الأهداف العسكرية والأعيان المدنية، لكن لا توجد أي أوامر معلنة بقتل المدنيين على أسس طائفية.
قال ناجٍ آخر في الحي سرقوا سيارته:
“اقتحم عنصران مسلحان منزلي، كانا ملثمين ويرتديان زياً أسود اللون ويبدوان في أوائل العشرينات من العمر، طلب أحدهم الهاتف بعد فتحه بينما بدأ الآخر بتفتيش المنزل، وتتالت الأسئلة بلهجة سورية: إنت سني ولا علوي؟ ليش ساكن لوحدك؟ شو عندك سلاح؟”.
وأضاف: “حين حاولت الخروج من المبنى لأطمئن على أقاربي في الجوار منعني الجيران، كانت أصوات الرصاص من المباني متكررة وعلى شكل طلقتين أو ثلاث في كل مرة”.
وقال شاهد آخر: “دخل لمنزلي ثلاثة عناصر كان أحدهم يرتدي الزي الذي يُعرف الجهاديون بارتدائه، سألني إن كنت صائماً وطلب من الآخرين التأكد من عدم وجود آثار تناول طعام في المطبخ، وسألني عن الصلوات وعدد ركعاتها ليتأكد من أنني من المذهب السني”.
وأضاف أن العناصر سألوه لمن تعود ملكية السيارات أمام المبنى، وأي من المنازل للعلويين، فأجاب أنه يوجد منزل لكن سكانه فروا إلى القرى.
وبحسب عدة شهادات وصور قام العناصر الذين دخلوا حي القصور ببانياس في ذلك اليوم بإحراق سيارات ونهب متاجر ومنازل فارغة بعد تحطيم أبوابها، إلى جانب سرقة أموال وهواتف وسيارات من منازل ضحايا عمليات القتل.
ويروي أحد ذوي الضحايا أن منزل أقاربه كان خاوياً من المال حينما زاره عقب مقتلهم، بينما كانت الأوراق الثبوتية موجودة.
وفي اليوم الثاني، ظهر عناصر باسم “الأمن العام” التابع لوزارة الدفاع مع تداول أنباء بين الأهالي ومنشورات عبر وسائل التواصل الاجتماعي لطمأنة الأهالي، وعاد بعض السكان الفارين لمنازلهم بعد مرور ثلاثة أيام، لكن الانتهاكات استمرت بعد ذلك.
وشهدت المدينة تراحماً بين سكان من طوائف مختلفة، إذ دعمت عائلات من المسلمين السنة جيرانهم من العلويين، حتى أن بعض العناصر في صفوف القوات ساهموا في نجاة أبرياء من القتل وإسعاف مصابين، بالإضافة لدور العاملين في القطاع الطبي والإغاثي.
رأي قانوني:
يتبين من خلال تحليل الممارسات الني قامت بها الجماعات المسلحة في هذه الحالة أنها حالات قتل عمد استهدفت مدنيين عزل، وبالتالي تعد” جريمة حرب” وذلك بحسب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وذلك من جهة القتل المتعمد للمدنيين كما ورد في الحالة محل الدراسة ومن جهة تدمير الممتلكات والاستيلاء عليها بشكل تعسفي وواسع النطاق.
وهذا ما أكده تقرير منظمة العفو الدولية حول أحداث الساحل الذي نشرته في الثالث من أبريل/نيسان الجاري.
وتعد أيضاً “جريمة ضد الإنسانية” من حيث القتل غير المشروع والمتعمد الذي استهدف أشخاص مدنيين بشكل واسع النطاق ومنهجي كون الضحايا ينتمون لطائفة معينة.