تعرض دراسة الحالة هذه إصابة أربع عاملات نازحات في القصف التركي على معمل ألبان في ديرك/ المالكية شمال شرقي سوريا، وتناقش المسؤولية عن تهديد حياتهن وعملهن بعد أن نزحت عائلاتهن بسبب استمرار تركيا في هجماتها التي لا تميّز بين الأهداف العسكرية والأعيان المدنيّة.
فما المسؤوليات القانونية التي انتهكتها تركيا خلال استهدافها العاملات ومكان عملهن؟ وهل من سبل لتستمر العاملات وعائلاتهن في العيش دون تهديد؟ وعلى من تقع مسؤولية إيقاف الهجمات ضدهن؟
استهداف عاملات نازحات
كانت غزالة حنيف إيبي (40 عاماً)، وهي أم لأربعة أطفال نزحوا جميعاً من رأس العين عام 2019، قد انتهت للتوّ من غسل الأغطية القماشية للجبن، قبل أن تقصف طائرة تركية معمل زوزان للألبان بمدينة ديرك/ المالكية أقصى شمال شرقي سوريا قبل أن تقصفه طائرة تركية.
تصف الأجواء في مقر عملها يوم السبت 26 تشرين الأول/ أكتوبر، بأنها “كانت طبيعية ولا أصوات للطائرات التركية” التي قصفت بعد قليل وتسببت بإصابة أربع عاملات في المعمل، اثنتان منهن لم يبلغن الـ18 من العمر.
كانت العاملة يسرى قد تولّت تحضير أغطية سطول اللبن، بينما توجهت الأخريات للمدخل أو لخارج المبنى في انتظار وصول شحنة الحليب.
تقول غزالة: “بعضهن كن واقفات عند البرادات في الخارج، وأخريات قرب الحمامات في المدخل عندما جاءت الطائرة، وجهت الطائرة ضربتين للمعمل وراحت “.
وتضيف: “أنا وآهين ويسرى أصبنا بالشظايا، بالإضافة لأمل سقط الباب عليها ما تسبب بإصابة قدمها”.
وتسبب قصف الطائرة المسيرة التركية في ذلك اليوم بإصابة أربع عاملات نازحات في معمل زوزان للألبان بديريك، هن غزالة إيبي (40 عاماً)، ويسرى عبد الحي (17 عاماً)، وأمل محمد عيسى (14 عاماً)، وآهين التي أصيبت بشظايا بحسب زميلاتها.
وتجاهلت تركيا خلال هجماتها المكثفة على شمالي سوريا ما بين 23 و26 أكتوبر القانون الدولي الإنساني وما ينص عليه من مبدأ التمييز بين الأهداف العسكرية والأعيان المدنية.
وبدل ان تتخذ القوات التركية احتياطات لتجنب إصابة المدنيين وحماية مساكنهم وأماكن عملهم، تسبب بإصابة العاملات النازحات وهددت حياتهم، بالإضافة لدفعهن باتجاه التوقف عن العمل أو التفكير بالهجرة خارج البلاد.
وينص القانون الدولي الإنساني العرفي على اتخاذ الاحتياطات في الهجوم، فتدعو القاعدة 15 منه إلى توخّي الحرص الدائم في إدارة العمليات العسكرية على تفادي إصابة السكان المدنيين، والأعيان المدنية. “وتُتخذ جميع الاحتياطات العملية لتجنب إيقاع خسائر في أرواح المدنيين، أو إصابتهم، أو الإضرار بالأعيان المدنية بصورة عارضة، وتقليلها على أي حال إلى الحد الأدنى”.
إصابات بالشظايا وهلع
كانت مهام العاملات العشر تتوزع بين تحضير منتجات الجبن واللبن والكوكتيل واللبن السائل التي تباع في أسواق منطقة الإدارة الذاتية التي تعاني من نقص المنتجات المحلية رغم طبيعة المنطقة الزراعية الغنية بالمواد الأولية.
تقول أمل، وهي عاملة مصابة أيضاً، إنها نظفت الخزان الخاص بالحليب، وخرجت من المعمل إلى البوابة لاستلام كمية من الحليب وإدخاله، حين بدأ القصف ووقع الباب عليها.
وتقول يسرى إنها كانت تضع تواريخ الإنتاج على أغطية سطول اللبن، حين خرجت مشرفة المعمل للخارج تتحدث مع المدير حول تأخر شحنة الحليب اليوم، “وخرجت العاملات للشمس في الخارج، كان الجو بارداً في الداخل”.
وتضيف: “رتبت الأغطية الجاهزة والسطول، خرجت من غرفة التخمير وأغلقت الباب خلفي، لم أكن قد وصلت تماماً لعند المكنات عندما ضربت الطيارة”.
وقذف ضغط الانفجار يسرى وتظن أنه أغمي عليها للحظات، وعندما قعدت رأت قدمها مصابة وتنزف الدم.
تقول أيضاً: “المكنات كانت تخرج أصواتاً.. خشيت أن ينفجر شيء ما ضمن الآلات”.
لكنها لم تتمكن من السير بسبب الإصابة في قدمها والخوف الذي انتابها في تلك اللحظات، فزحفت إلى الباب حتى قام العمال الآخرون بإخراجها ونقلها للمشفى.
ورغم أن العاملة غزالة، المصابة بشظية معدنية في ظهرها، خرجت من المشفى في اليوم ذاته، إلا أنها تقول بعد مرور نحو أسبوع إن “موضع الإصابة ما زال متورّماً”.
وتصف ما شاهدته بعد الضربة: “العاملات سقطن كل في مكانها، وأصيب بعضنا بالشظايا، آهين أصيبت في ظهرها وبطنها وأنا أصبت في ظهري”.
وقام العاملون في المعمل (إداريون وسائقون) بنقل المصابات بسياراتهم، “كان ذلك أسرع من طلب الإسعاف”، على حدّ قول غزالة التي تحمد الله على عدم مقتل أحد.
العاملات الأخريات أصبن بأعراض الخوف، “كنّ يرتجفن ويطلبن إيصالهن لمنازلهن.. أصيبت سيدرا بنوبة هلع وسقطت على الأرض”.
ووجهت القوات التركية خلال أربعة أيام مئات الضربات العسكرية لـ 137 منطقة سكنية، بينها مخيم للنازحين، ما أدى لتدمير كلي أو جزئي في منازل المدنيين الذين اعتبروا أن عدم الخروج هو التصرف الأكثر أماناً في ظل القصف.
واستهدفت الهجمات التركية منشآت البنية التحتية والاقتصادية العامة والخاصة في المنطقة، التي لم تتعافى بعد من تداعيات طويلة الأمد للدمار الذي خلفته الهجمات التركية السابقة نهاية العام الماضي 2023 وبداية العام الحالي 2024.
كانوا ضحايا سابقاً
وتنحدر العاملات المصابات من رأس العين/ سري كانيه التي سيطرت عليها القوات التركية وفصائل الجيش الوطني المدعوم من أنقرة خريف العام 2019، ما تسبب بفرارهن لأرياف الحسكة الأخرى والاستقرار فيما بعد في مخيم نوروز بريف ديرك.
وتتذكر غزالة يوم 9 أكتوبر قبل خمسة أعوام، كانت تنشر الغسيل فوق سطح منزلها في سري كانيه حين بدأت الطائرات التركية بقصف المدينة، ما تسبب بنزوح عائلتها.
وترك زوجها كل ممتلكاته، بما فيها محتويات محله للهواتف، إذ كان همه في تلك اللحظات إنقاذ أطفاله وأفراد عائلته، لكنه أخرج معه وثائق ملكية المنزل الذي يسكنه عناصر أتراك حالياً، بحسب غزالة التي اتصلت فيما بعد ببعض سكان الحي المتبقين هناك.
نزحت العائلة نحو تل تمر المجاورة ثم مراكز إيواء مؤقتة قرب الحسكة، وانتقلت بعد عام من نزوحها إلى مخيم نوروز بريف ديرك.
استأجر زوجها محلاً في ديرك المدينة لكنه تركه بعد رفع الإيجار وعمل بعدها في بيع الخضار، حتى ساعدته منظمة في افتتاح محل جديد للهواتف كونه لا يستطيع ممارسة المهن المجهدة لأنه من ذوي الإعاقة.
تقول غزالة إنها بدأت العمل في المعمل منذ مطلع آذار/ مارس الماضي، ” وكان العمل مناسباً لي. اعتدت على غلي الحليب وتخثيره وتحضير الجبن. كانت معاملة الإدارة والمشرفين جيدة وكنت مرتاحة”.
وتضيف: “يؤمن والدهم احتياجاتهم الأساسية لكن لا يكفي دخله، يعني إذا احتاجوا لباساً أو حذاء كنت أساعد في تأمينها لهم”.
وتستذكر العاملة يسرى أيام كانت تساعد مع شقيقاتها والدتهنّ في خياطة الملابس النسائية، ونزوحهن المؤقت لبضعة مرات لخارج المدينة والرجوع بعد عودة الهدوء.
“كان أبي في لبنان يعمل في لبنان في الحدائق، ليلة بدأ القصف على رأس العين بقينا مستيقظين حتى اقتراب الصباح، سمعنا أنهم ينوون دخول المدينة، تركنا كل شيء.. منزلنا والمحل والأقمشة والماكينات”.
وانتقلت عائلة يسرى من قرية إلى أخرى حتى توفرت لها وسيلة نقل للحسكة حيث استضافتهم عائلة من معارفهن لمدة شهر، وقدمن إلى مخيم نوروز بريف ديرك حين لم يتم استقبالهن في مخيم توينة/ واشوكاني بريف الحسكة.
تهديدات مستمرة
تقول يسرى: “الآن ينزف الجرح مجدداً إذا استندت على قدمي، استعرت عكازة من جارتنا وأحاول عدم الضغط على الإصابة”.
بعد القصف بثلاثة أيام، اتصلت إدارة المعمل بالعاملات للقيام بأعمال تنظيف في المعمل والعودة للعمل، لكن غزالة اعتذرت لأنها ما زالت تتألم بسبب الإصابة.
تقول الآن: “بالتأكيد الخوف مازال موجوداً.. كلّما نسمع صوتاً مدوياً نتصور أن الطائرة تضرب.. لكن لا خيار آخر سأعود لعملي”.
ورغم أن تركيا بدأت هجماتها في المنطقة قبل ثلاثة أيام من استهداف المعمل، وأعلنت أن ذلك رد على هجوم لحزب العمال الكردستاني في أنقرة، إذ تعتبر أن الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا تابعة للحزب المحظور في تركيا، إلا أن العاملات في ديرك لم تكن ترين أي مؤشر أو مبرر لاستهداف مكان عملهن.
ووثقت إنسايت، خلال الهجمات التركية ما بين 23 و26 أكتوبر، مقتل 14 مدنياً في منازلهم وأعمالهم وفي مخيمات النازحين، و4 عناصر من قوى الأمن الداخلي في مراكزهم وعلى الحواجز الطرقية.
وأصيب 48 مدنياً و14 عناصر عسكريين ومن قوى الأمن الداخلي، وسط استمرار المخاوف أثناء تلقيهم العلاج بسبب استمرار الضربات التي طالت مراكز صحية ومدنيين تطوعوا لإسعاف الجرحى.
وتنص المادة 51 من الملحق (البروتوكول) الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف عام 1977 على أنه “لا يجوز أن يكون السكان المدنيون، وكذلك المدنيون الأفراد، هدفاً للهجوم. وتحظر أعمال العنف أو التهديد به التي يكون الغرض الأساسي منها نشر الرعب بين السكان المدنيين”.
وتؤكد التوثيقات التي جمعتها إنسايت خلال الأيام الأربعة ومقاطعتها مع البيانات التركية أن تركيا ارتكبت انتهاكات تتوفر فيها عوامل تصنيفها كجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وفق القوانين والأعراف والاتفاقيات الدولية كالقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي الإنساني العرفي واتفاقية جنيف 1949 وبروتوكوليها الإضافيين.