شنت تركيا هجمات عسكرية على مناطق شمالي سوريا ما بين 23 و26 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، دون الالتزام بالتمييز بين الأهداف العسكرية والأعيان المدنية، ودمّرت بالضربات العنيفة جزئياً أو كلياً البنى التحتية والخدمات الأساسية في المنطقة.
ولم يشتبك الجيش التركي مع قوات عسكرية على الأرض بل شن الهجمات العنيفة بالطائرات الحربية والمسيرة والمدافع على مناطق مأهولة ومؤسسات خدمية ومراكز الشرطة.
وقتل وأصاب الجيش التركي 62 مدنياً تكشف هوياتهم أن كلهم من الفئات الضعيفة من الأطفال والنساء والنازحين والعمال، بالإضافة لقتل وإصابة 18 من العسكريين وقوى الأمن الداخلي.
واستهدف الجيش التركي 205 مواقع ضمن الأراضي السورية التي تديرها الإدارة الذاتية، وتكشف هذه الإحاطة أن غالبية الأهداف مناطق سكنية ومؤسسات خدمات وبنى تحتية، بالإضافة لـ 16 نقطة لقوى الأمن الداخلي ونقطة عسكرية للقوات الحكومية.
الضربات العنيفة خلّفت أضراراً واسعة في موارد الكهرباء والمياه والخبز والوقود الضعيفة أصلاً بسبب الحرب المستمرة منذ 13 عاماً في البلاد والتدمير الذي تسببت به هجمات عسكرية تركية سابقة، كما أوقفت الدوام في المدارس وبعض المراكز الصحية.
وأعدّ فريق الرصد والتوثيق بمنظمة إنسايت هذه الإحاطة بعد مقابلات واتصالات مع الضحايا وذويهم وشهادات ناشطين وإعلاميين محليين في المناطق التي استهدفتها الضربات التركية.
وتكشف البيانات الواردة النوع الاجتماعي للضحايا وفئاتهم، بينما لم نكشف الأسماء عموماً لتجنّب الإضرار بالضحايا في هذه الأوقات العصيبة عليهم وذويهم.
وقالت وزارة الدفاع التركية إنها شنت الهجمات رداً على هجوم نفذه مقاتلو حزب العمال الكردستاني في العاصمة التركية أنقرة، بناء على افتراضها أن قوات سوريا الديمقراطية مرتبطة بالعمال الكردستاني.
لكن هويات الضحايا والخدمات المستهدفة في الهجمات، التي وثقتها إنسايت، توضح أن الأهداف التركية كانت فئات ضعيفة وخدمات متضررة من جولات سابقة للحرب في البلاد.
الهجمات تثبت تعمّد تركيا إخضاع أكثر من ثلاثة ملايين سوري في شمال وشرق سوريا لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكهم الفعلي كلياً أو جزئياً، بالإضافة لقتل عدد من الأفراد لكونهم كرداً أو يعيشون في منطقة معينة.
وتؤكد التوثيقات التي جمعتها إنسايت خلال الأيام الأربعة ومقاطعتها مع البيانات التركية أن تركيا ارتكبت انتهاكات ترتقي لتكون جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وفق القوانين والأعراف والاتفاقيات الدولية كالقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي الإنساني العرفي واتفاقية جنيف 1949 وبروتوكوليها الإضافيين.
قتلى مدنيون
تسببت الهجمات التركية بقتل 14 مدنياً في منازلهم وأعمالهم وفي مخيمات النازحين، و4 عناصر من قوى الأمن الداخلي في مراكزهم وعلى الحواجز الطرقية.
والقتلى المدنيون هم 9 رجال، 7 منهم عمال في معمل غاز السويدية، و2 في تل رفعت شمال حلب، وهم من النازحين الفارين من راجو بريف عفرين أثناء العملية التركية “غصن الزيتون” عام 2018.
ومن القتلى المدنيين 2 امرأة كانت كل منهما في منزلها في بلدة تل رفعت بريف حلب الشمالي، إحداهما قتلت الضربات التركية ابنتها أيضاً، والأخرى قُتلت مع زوجها.
ومن ضمن القتلى 3 أطفال، هم 2 طفلتان (5 أعوام و11 عاماً)، ولحظة سقوط القذائف كانت كل منهما تحتمي في منزل عائلتها في تل رفعت شمال حلب ومنبج شمال شرقها، بالإضافة لمقتل يافع يبلغ 17 عاماً أثناء عمله في منطقة محطة السويدية الغازية بريف ديريك/ المالكية.
مصابون مدنيون
وأصيب 48 مدنياً و14 عناصر عسكريين ومن قوى الأمن الداخلي، وسط استمرار المخاوف أثناء تلقيهم العلاج بسبب استمرار الضربات التي طالت مراكز صحية ومدنيين تطوعوا لإسعاف الجرحى.
والمصابون المدنيون هم 32 رجلاً، أصيب منهم 14 عاملاً في محطة السويدية الغازية، و6 رجال مدنيين في استهداف مؤسسة المناهج التعليمية وخلال محاولتهم التطوع لإسعاف جرحى عناصر مركز قوى الأمن الداخلي المجاور.
يقول آلان، وهو أحد المصابين المدنيين، إنه لم يكن ممكناً مشاهدة صديقه الشخصي (من عناصر الأسايش) مصاباً دون محاولة نقله للمشفى.
ويضيف أنه أصيب مع المسعفين الآخرين في الضربات التالية، وتم نقلهم بعدها لمشفى عامودا ثم لمشافي القامشلي لتلقي العلاج.
وأصيب 7 عمال في القصف على صوامع القمح في قرية روفي بريف كوباني، كما أصيب 2 نازح في منزلهما ببلدة تل رفعت و1 نازح مسن (63 عاماً) في مخيم سردم القريب، و2 رجل مدني كان كل منهما في منزله بريف تل تمر وريف منبج.
وأصيبت في القصف 3 نساء، وهن 1 امرأة نازحة كانت في مسكنها في تل رفعت (قُتل والداها في القصف)، و1 نازحة في مخيم نوروز أصيبت أثناء استهداف مكان عملها في معمل ألبان في ديريك/ المالكية، و1 امرأة في قرية (الأغيبش) بريف تل تمر.
وأصيب في الهجمات التركية 13 طفلاً، وهم 2 طفلتان نازحتان (14 و17 عاماً) تعملان في معمل الألبان بديريك، و2 طفلان نازحان (3 و10 أعوام) في مسكن عائلتهما بتل رفعت (قُتلت والدتهما وشقيقتهما الطفلة في القصف نفسه)، و2 طفلان (13 و8 أعوام) في منبج (قُتلت شقيقتهما الطفلة في القصف نفسه).
وأصيبت 3 طفل (5 و5 و15 عاماً) كل منهم كان في منزله بريف منبج، و1 طفلة (3 أعوام) في منزلها بكوباني، و1 طفل (5 أعوام) في منزله بتل رفعت، و1 طفل (8 أعوام) في منزله بريف تل تمر، و1 طفل (13 عاماً) في عامودا.
وبالرغم من أن لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بسوريا في تقريرها في آذار مارس 2024 كانت قد صنفت بعض الانتهاكات التي ارتكبتها تركيا في شمال شرق سوريا ترقى لتكون جرائم حرب إلا أنه لا توجد أي بوادر مقاضاة أو سعي لإدانة الحكومة التركية وردها عن ارتكاب الانتهاكات بشكل فعلي.
منازل وملاذات نازحين
ووجهت القوات التركية خلال ثلاثة أيام مئات الضربات العسكرية لـ 137 منطقة سكنية، بينها مخيم للنازحين، ما أدى لتدمير كلي أو جزئي في منازل المدنيين الذين اعتبروا أن عدم الخروج هو التصرف الأكثر أماناً في ظل القصف.
وتضم مناطق الإدارة الذاتية مئات الآلاف من النازحين داخلياً، غالبيتهم فارون من عمليات عسكرية تركية سابقة في عفرين عام 2018 ورأس العين/ سري كانيه وتل أبيض عام 2019، والتصعيد فيما بعد على خطوط التماس في عين عيسى شمال الرقة وتل تمر شمال الحسكة.
وحوالي الثامنة من مساء الأربعاء 23 تشرين الأول/ أكتوبر الحالي، قصفت القوات التركية بسلاح المدفعية مساكن نازحين وسط بلدة تل رفعت، من بينها عائلة فرت من الحرب عام 2018 في موباتا/ معبطلي بريف عفرين.
وقالت شاهدة إن الطفلة ملك التي تبلغ 5 أعوام ووالدتها قُتلتا في القصف التركي، وأصيب شقيقاها الطفلان.
وأضافت أن أفراد العائلة المتبقين كانوا مجبرين في اليومين التاليين على التنقل بين المشفى والأقارب في ريف تل رفعت.
وفي أحد المنازل الأخرى المستهدفة في تل رفعت خلال الليلة نفسها قُتل رجل وزوجته الفارين من ناحية شران بريف عفرين، وفي منزل ثالث أصيب نازحان شقيقان.
وقال شاهد لإنسايت إن القوات التركية استهدفت بنحو 10 قذائف مخيم “سردم” لنازحي منطقة عفرين في قرية تل سوسين وموقع المزارع القريب منها.
وأشار أنه بالإضافة للإصابات، توفي محمد عبد الكريم سيدو (43 عاماً) خلال القصف بسكتة قلبية بحسب ما أخبر ذووه المعزّين (لم تتم إضافته لعدد الضحايا الذين وثقت إنسايت مقتلهم في القصف).
وفي وقت متأخر من ليلة الخميس 24 تشرين الأول/ أكتوبر، استهدفت القوات التركية بسلاح المدفعية منزلاً في قرية البنية، شمال شرق مدينة منبج، ما أسفر عن قتل طفلة وأصيب شقيقيها الطفلان.
الصور ومقاطع الفيديو، التي اطلعت عليها إنسايت وتواصلت مع الإعلاميين المنتجين لها للتأكد من صحتها، أظهرت دماراً كاملاً في المنزل، ما يؤكد تقصّد المهاجمين التدمير العنيف المؤدي للقتل.
الدمار الكامل في المنزل يثبت تورط القوات التركية باستهدافه مباشرة، رغم أن العائلة كانت تسكنه طيلة الفترة السابقة، بحسب إفادة أحد سكان القرية.
واستهدفت الضربات التركية 6 منشآت اقتصادية، بعضها تدعم عمل النازحين في المنطقة، إذ قصفت طائرات مسيرة السبت 26 أكتوبر معمل “زوزان” للألبان في ديريك/ المالكية، ما تسبب بإصابة 3 عاملات نازحات، اثنتان منهن لم يبلغن الـ18 من العمر.
تقول أمل، وهي عاملة مصابة، إنها نظفت الخزان الخاص بالحليب، وخرجت من المعمل إلى البوابة لاستلام كمية من الحليب وإدخاله، حين بدأ القصف ووقع الباب عليها.
وأضافت أنه حالة الهلع انتشرت بين العاملات عموماً، بينما تم نقلها مع عاملتين أخريين إلى المشفى.
خدمات أساسية
واستهدفت الهجمات التركية منشآت البنية التحتية والاقتصادية العامة والخاصة في المنطقة، التي لم تتعافى بعد من تداعيات طويلة الأمد للدمار الذي خلفته الهجمات التركية السابقة نهاية العام الماضي 2023 وبداية العام الحالي 2024.
وطالت الضربات التركية 11 منشأة للخدمات العامة، و3 منشآت صحية في القامشلي ورميلان وكوباني، ومنشأة تابعة لهيئة التعليم في عامودا ومركز اتصالات في الدرباسية ومعبراً داخلياً مع مناطق سيطرة الجيش الوطني المدعوم من تركيا بريف حلب.
وأدى تدمير 4 محطات لتحويل الكهرباء، لتضرر 150 ألف عائلة، بحسب تقديرات هيئة الطاقة في الإدارة الذاتية.
كما طالت الضربات التركية 7 مراكز لتخزين القمح وإنتاج الخبز (أفران ومطاحن وصوامع).
وتسبب القصف مباشرة بارتفاع أسعار أصناف من الخبز في أسواق المدن، وتفاقم نقص الوقود والكهرباء وغاز الطهي والمياه، وتعليق الدوام في المدارس، وقيود على حركة طواقم الإسعاف والإطفاء وشرطة النجدة.
وقال خالد، وهو أحد عناصر الإطفاء في عامودا، إنهم توجهوا لإخماد ا لحرائق عقب قصف الطائرات المسيّرة التركية يوم السبت 26 أكتوبر لمواقع في المدينة.
رجل الإطفاء أكد أن الضربات التالية التي أصابت المسعفين ورجال الإطفاء كانت من طائرة حربية.
وقصفت تركيا 16 مركز ومحطة لإنتاج الوقود، بما فيها المعمل الوحيد لإنتاج غاز الطهي في المنطقة.
وكانت الضربات التركية منتصف كانون الثاني/ يناير قد تسببت بارتفاع سعر أسطوانة الغاز المنزلي من 8000 ليرة سورية إلى 10 دولارات أميركية (أكثر من 150 ألف ليرة سورية)، خفّضتها الإدارة الذاتية لاحقاً لـ 100 ألف ليرة سورية بعد ترميم جزئي في المعمل.
كما تسبب تدمير محطات الكهرباء حينها بانقطاع الكهرباء العامة عن المدن والأرياف، ولم يتم إعادة التغذية لشبكة الكهرباء العامة في القامشلي ومناطق أخرى حتى الآن.
وتدل الهجمات المدمرة على أن تركيا تحاول إخضاع سكان هذه المناطق الذين لا يشاركون في الأعمال الحربية، عمداً، لظروف معيشية متفاقمة.
ولا يمكن اعتبار محطات تحويل الكهرباء ولا منشأة السويدية للكهرباء والغاز المنزلي وافران الخبز والمنشآت الصحية مصادر تمويل لأي جهة عسكرية أو سياسية، لأن المتضررين هم أكثر من ثلاثة ملايين من السكان بالإضافة لكميات وقود وغاز كانت تصل مناطق النفوذ الأخرى.
التوصيات
- على المجتمع الدولي ممارسة ضغط دبلوماسي على تركيا للالتزام بالقوانين الدولية ووقف الهجمات الممنهجة على شمال شرقي سوريا.
- ينبغي على المنظمات الإنسانية تقديم المساعدة الفورية للسكان المتضررين من الهجمات التركية، بما في ذلك توفير الطاقة البديلة والموارد اللازمة لتلبية احتياجات الحياة اليومية والخدمات الأساسية.
- على المجتمع الدولي والمنظمات الدولية تقديم الدعم المالي والفني لإعادة إعمار المنشآت التي تضررت جراء الهجمات، وكذلك دعم جهود الصيانة للمحافظة على استدامة البنية التحتية.
- ينبغي إجراء تحقيق دولي مستقل وشفاف حول الهجمات التركية ومدى انتهاكها للقانون الإنساني الدولي. لمحاسبة الأطراف المسؤولة عن ارتكاب أي جرائم حرب أو انتهاكات لحقوق الإنسان.
- على المجتمع الدولي تعزيز الحماية الدولية للسكان المدنيين في المناطق المتضررة، والتأكد من توفير الحماية الكافية لهم ضد الهجمات العسكرية غير المبررة.
- ينبغي على جميع أطراف النزاع أن تلتزم بحماية المدنيين وتجنب استهداف الأعيان المدنية، بما يتفق مع القانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان.
- على الجهات العربية والدولية حث أطراف الصراع المختلفة للحوار سبيلاً للحلول، ودعم سياقات التفاوض بين الإدارة الذاتية من جهة وكل من الحكومة السورية والجيش الوطني المعارض والحكومة التركية، لتجنيب السوريين عموماً المزيد من ويلات الحرب.
لقراءة التقرير كاملاً من الرابط: الأعيان المدنية تحت النار